الجمعة, أبريل 19, 2024

اخر الاخبار

تحليلاترحلة أبجد هوز من التراث إلى علم اللغة الحديث

رحلة أبجد هوز من التراث إلى علم اللغة الحديث

بقلم: د.علي إبراهيم محمد
أستاذ أصول اللغة بجامعتي الأزهر وأم القرى

اختلفت كلمة العلماء القدامى والمحدثين في سر الترتيب الأبجدي (المزدوج) الذي جاء في صورة كلمات أبجد هوز ـ إلخ فيذهب بعضهم أن هذه الكلمات هي أسماء لملوك يقول الفيروز أبادي: “أبجد إلى قرشت وكلمن رئيسهم ملوك مدين ووضعوا الكتابة العربية على عدد حروف أسمائهم هلكوا يوم الظلمة”. والواقع أن هذه الرواية قد نُقدت من جانب القدماء أنفسهم.

ويذهب بعض القدامى إلى أن الترتيب وضع للتعليم “قال قطرب ـ في معنى أبجد ـ هو أبو جاد وإنما حذفت واوه وألفه لأنه وضع لدلالة المتعلم فكره التطويل والتكرار وإعادة المثل مرتين فكتبوا أبجد بغير واوه ولا ألف لأن الألف في “أبجد” والواو في “هوز” قد عرفت صورتهما وكل ما مثل من الحروف استغنى عن إعادته”.

ويذكرون أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لقي أعرابيًّا فقال له هل تحسن أن تقرأ شيئًا من القرآن قال: نعم قال له: فأقرأ أم القرآن فقال: والله ما أُحسن البنات فكيف الأم فضربه ثم أسلمه إلى الكتاب فمكث فيه حينًا فهرب ثم أنشأ يقول:
أتيت مهاجرين فعلموني # ثلاثة أســــــــــطر متتابعات
وخطوا لي أباجاد وقالوا # تعلم سعفصًا وقريشات
ويذهب إلى هذا بعض المحدثين إذ يرى أن هذا الترتيب يهدف إلى غرض تربوي، ويستدل على ذلك بما فعله علماء الصرف بشأن حروف الإبدال فقد جمعوها لهذا الغرض التربوي في وحدات صوتية مصورة في قولهم: هدأت موطيا.

والواقع أن هذا الدافع التعليمي يمثل الهدف المادي لكنه لا يصلح وحده مسوغًا لالتزام تاريخي معروف منذ عرف البحث العلمي تاريخ الكتابة، ولعل هذه الأقوال من القدامى في تفسير ترتيب أبجد هوز راجعة إلى عدم ظهور الدراسات المقارنة آنذاك، وقد أدى ذلك إلى أن فريقًا من القدامى انصرف بهذه الكلمات (أبجد هوز… إلخ) إلى عالم الطلاسم والتعاويذ والسحر ولهذا صدف بعض الناس قديمًا عن استعمالها وزهدوا فيها.

وذهب بعضهم إلى أنها أسماء شياطين ألقوها على ألسنة العرب في الجاهلية فكتبوها، واعتمد بعضهم على بعض الأحاديث الموضوعة والضعيفة في إيجاد معنى لكلمات “أبجد هوز.. إلخ” فيذكر بعضهم أنه وقع في كتاب المبدأ “أن سيدنا عيسى عليه السلام  لما بلغ تسع سنين أسلمته أمه إلى الكتاب عند رجل من المكتبين يعلمه كما يعلم الغلمان فلا يسأله عن شيء إلا بادره عيسى إلى علمه قبل أن يعلمه إياه فعلمه “أبا جاد” فقال عيسى وما أبو جاد؟ فقال المعلم: لا أدرى فقال عيسى قم من مجلسك فقام فجلس عيسى مجلسه وقال سلني: فقال المعلم: ما أبو جاد؟ فقال عيسى: الألف: آلاء الله، والباء: بهاء الله، والجيم: جمال الله وبهجته، والدال: دين الله فعجب المعلم من ذلك فكان أول من فسر أباجاد عيسى بن مريم عليه السلام.

وعن هذا الحديث يقول الشيخ أبو الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني أن “فيه إسماعيل بن عيسى التيمي والبلاء منه.

ويذكرون أيضًا في هذا الصدد أن سيدنا عثمان بن عفان – رضي الله عنه – سأل سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله ما تفسير أبي جاد؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” تعلموا تفسير أبي جاد، فإن فيه الأعاجيب “قيل يا رسول الله: وما أبو جاد؟ قال: ” الألف آلاء الله حرف من أسمائه، وأما الباء فبهجة الله وجماله وجلاله، وأما الجيم فجنة الله، وأما الدال فدين الله، وأما هوز فالهاء: الهاوية ” وفسر جميع الحروف إلى قرشت”.

وقريب من هذا الحديث يذكر ابن تيمية حديثًا عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تعلموا أباجاد وتفسيرها ويل لعالم جهل تفسير أباجاد ” قال: وقالوا: يا رسول الله وما تفسيرها قال: “أما الألف فآلاء الله وحرف من أسمائه..” إلخ.

وذكر عن راوي هذا الحديث أنه ضعيف لا يحتج به كما أن محمد بن زياد الجزري الذي حدث حديث معاوية بن قرة غير موثوق بنقله.

وخير ما يذكر في هذا ما قاله ابن جرير إذا قال: ولو كانت الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك صحاح الأسانيد لم يعدل عن القول بها إلى غيرها ولكنها واهية الأسانيد غير جائز الاحتجاج بمثلها.

هذه هي نظرة العلماء القدامى للترتيب الأبجدي، أما العلماء المحدثون فقد اعتمدوا في بيان سر هذا الترتيب على الدراسات التاريخية والمقارنة وما توصلت إليه هذه الدراسات من نتائج، وتوصلوا في ذلك إلى أن الترتيب العربي الأبجدي، والترتيب السامي من أصل واحد، ومصدر متحد لذلك جعلوا تعليل الترتيب السامي صالحًا للترتيب العربي الأبجدي.

وقد ناقش البحث العلمي الحديث علل الترتيب السامي وكان للمحدثين آراء في هذا التعليل منها:

1- “أن الحروف مرتبة على أن تكون مجموعة من الكلمات يسهل حفظها على المتعلم، ويظهر هذا من الأحرف الأربعة الأولى وهو تكون كلمتي: (أ ب) و (جد) غير أن هذه الطريقة لا يمكن اعتمادها لتفسير الحروف الباقية فأي معنى سهل الحفظ يمكن استنباطه من “هـ و ز – ح ط ى”.

2- أن حروف الأبجدية السامية الشمالية وهي اثنان وعشرون حرفًا مقسمة في ترتيبها المعروف إلى إحدى عشرة كلمة ثنائية كل كلمة منها تدل في اللغة المصرية على عضو من أعضاء الإنسان وذلك على النحو الآتي: أ + ب = قلب، ج + د = صورة الإنسان أو شكله هـ + و = عضلة، ز + ح = دم، ط + ى = لسان، ك +ل = صدر وحضن، م + ن = فخذ، س + ع = مرارة، ف +ص =ركبة، ق +ر = خصية، ش + ت = عضو داخلي.

ويرى بعض الدارسين أن هذه النظرية قائمة على الوهم “فلمَ يختار الساميون الشماليون كلمات مصرية لترتيب أبجديتهم وتسهيل حفظها”؟.

3- أن حروف الأبجدية مرتبة حسب السلم الموسيقي السومري وذلك بتحويل المقاطع المسمارية إلى مجري أصوات “رموز ألفبائية” ومما يثير الريب في هذه النظرية بعد الهوة بين الساميين الشماليين وبين المصدر الذي يفترض أخذهم عنه فالشرط الأساسي لصحة هذه النظرية هو إثبات معرفة الساميين الشماليين الغربيين السلم الموسيقي السومري وهذا الشرط لا يتوفر في هذه النظرية.

4-وهناك اتجاه يرجع هذا الترتيب إلى مجموعة من الجوامع التي تجمع بين الحروف في الترتيب ومن هذه الجوامع:
(أ‌)- التشابه في طبيعة الأصوات
فالحروف الأربعة الأولى (أ ـ ب ـ ج ـ د) تشترك في كونها أصواتًا انفجارية أو شديدة والحروف الأربعة التي تليها (هـ ـ و ـ ز ـ ح) تشترك في كونها أصواتًا احتكاكية أو رخوة، ومما يمكن تفسيره على هذا القبيل توالي اللام والميم والنون وهن أصوات مجهورة متوسطة بين الشدة والرخاوة.

لكن الأمر لا يطرد على هذا الوجه دائمًا وهذا الجامع إذا أعطي تفسيرًا لالتقاء بعض المجموعات فإنه لا يقدم تفسيرًا لكثرة التوالي داخل المجموعات نفسها ولا يقدم سببًا مقبولا لتقديم مجموعة مشتركة على أخرى وأين هذا من ترتيب الخليل وسيبويه على الأساس الصوتي الصارم؟

(ب‌) التشابه في معاني أسماء الحروف: ومن ذلك حرفا الياء والكاف وتجاورهما فالياء معناها اليد ، والكاف معناه الكف والشبه واضح في كل منهما ومثلهما الراء والشين فالأولى معناها الرأس والثانية معناها السِّن.

5- التشابه في الاستعمال، ولا يقع تحت هذا التعليل سوى الحرفين (هـ) ـ (و) وكلاهما مستعمل في كتابة الضمير المتصل للغائب المفرد في الكتابات السامية الشمالية. ومن الواضح أن هذه الجوامع المذكورة قد تفسر توالي عدد من الحروف دون أن يشكل أي جامع منها بمفرده تفسيرًا مقبولا لجميع الحروف ، بل يذهب بعض الباحثين إلى أبعد من هذا في الحذر حين يذهب إلى أن هذه الجوامع وحدها لا تكفي في تفسير هذا الترتيب.

وعلى أية حال فمن الثابت أن الترتيب الأبجدي العربي مأخوذ عن الترتيب السامي وللعلماء على ذلك أدلة منها:

1- أن صوغ كلمات الترتيب الأبجدي العربي في كلمات أبجد هوز حطي … إلخ هو نفس الترتيب السامي.

2- أن القيمة العددية لأحرف العربية ترتبط بهذا الترتيب السامي ويتضح ذلك على النحو الآتي:

الحرف وقيمته العددية
أ = 1 ، ب = 2 ، ج = 3 ، د = 4 ، هـ = 5 ، و = 6 ، ز = 7 ،  ج = 8 ، ط = 9 ، ى = 10 ، ك = 20 ، ل = 30 ، م = 40 ، ن = 50 ، س = 60 ، ع = 70 ، ف = 80 ، ص = 90 ، ق = 100 ، ر = 200 ، ش = 300 ، ت = 400 ، ث = 500 ، خ = 600 ، ذ = 700 ، ض = 800 ، ظ = 900 ، غ = 1000

ومن المعلوم أن العرب قد استخدموا هذا الحساب قبل الحساب بالرموز الرقمية آخذين عن الساميين طريقة الحساب بالحروف يقول العقاد: وطريقة الترقيم الحسابية أحدث كثيرًا من طريقة الكتابة بالحروف ولكن تقويم الحروف بالقيم الحسابية قديم في الشعوب السامية.

ولا يزال للحساب بالحروف بقايا في كثير من مظاهر الحياة العلمية والعملية والوظيفية مثل ترقيم مقدمات الكتب والبحوث وترتيب الدرجات العلمية والوظيفية عند بعض الفئات.

ومما يؤكد سامية هذا الترتيب أن العرب سموا الحروف الزائدة عندهم بالروادف وهي تسمية تشعر بأنها مزيدة على أصل هذا وغيره مما يثبت أن الترتيب الأبجدي العربي مأخوذ عن الترتيب السامي، أما صوغ هذا الترتيب في كلمات أبجد هوز إلخ فيرجح د عبد الله ربيع أن هذا الأمر لا يعدو كونه وسيلة تذكيرية يتخذها الطالب لحفظ هذا التسلسل الأبجدي وهذا يتفق مع الطبيعة التعليمية العربية التي تلجأ كثيرًا إلى صوغ كلمات بمعنى أو بغير معنى واضح لتمثل ما يمكن أن يُسمى بمفاتيح الذاكرة ويكثر هذا في مجال الأصوات والنحو وسائر العلوم اللغوية والشرعية.

ومن ذلك ما جاء في الشاطبية من قوله:
جعلت أبا جاد على كل قارئ # دليلا على ا لمنظوم أول أولا

وشرح الإمام أبو القاسم ابن القاصح هذا البيت فقال:
أخبر أنه جعل حروف أبي جاد دليلا، أي علامة على كل قارئ نظم اسمه في القراء السبعة ورواتهم، وأول أول، أي الأول من حروف أبي جاد للأول من القراء، ففي اصطلاحه (أبج) لنافع وراوييه فالهمزة لنافع، والباء لقالون، والجيم لورش.

اقرأ المزيد