الجمعة, مارس 29, 2024

اخر الاخبار

مقالاتد. على فخروفصلان جديدان فى تمثيلية النيولبرالية

فصلان جديدان فى تمثيلية النيولبرالية

بقلم: د. علي محمد فخرو

منذ حوالي ربع قرن، وفي منتجع دافوس السويسري، أحد أبرز معاقل الدًّعم للفكر والممارسات النيولبرالية، حصل إقرار مبكًّر من بعض منظمي اجتماعات دافوس السنوية الشهيرة بأن العولمة قد دخلت طوراً جديداً يتميز بتصاعد ردود الفعل العنيفة ضدُّ ممارستها الاقتصادية النيولبرالية، مًّما سيهدًّد الاستقرار الاجتماعي ويهيًّئ لظهور زعامات وحراكات شعبوية متطرفة تتحوُّل تدريجياًّ إلى حالات عصيان.

وبعد عشر سنوات لخًّص أحد عرًّابي النيولبرالية العولمية، ألن غرنسبان، الأسباب الكامنة وراء ذلك التنبًّوء عندما أشار إلى أن النمو الإقتصادي في العالم يصبُّ في مصلحة الأغنياء، بينما يبقى العمال في وضع لايحسدون عليه، وأضاف بأن ذلك سيؤدًّي إلى توتُّرات اجتماعية وتغيًّرات اقتصادية جذرية.

التمثيلية التي نشاهدها الآن فوق مسرح النيولبرالية الرأسمالية المتوحًّشة المنفلتة يؤكًّد أقوال ومخاوف الأمس تلك. وتتمثًّل تلك المسرحية في فصلين جديدين متقابلين ومتناقضين.

الفصل الأول يظهر إضافة لممارسة عولمية نيولبرالية جديدة. فبعد انتقال الراسمالية النيولبرالية، كرأسمالية إنتاجية، من تسليع الإنتاج المادي الكلاسيكي وتسويقه كبضائع تجارية تباع وتشترى، إلى رأسمالية استهلاكية تقوم بتشييئ الإنسان وتسليعه وتسليع كل أنواع نشاطاته الإنسانية غير المادية من فنون ورياضة وأفكار، نتعايش الآن مع الرأسمالية الخيالية الرافضة للواقع، التي أضافت في المدة الأخيرة نوع جديد من التسليع على يد الرئيس الأميركي الحالي، وهو تسليع العلاقات بين الدول. كل علاقة لها ثمن يدفع، إمُّا بشكل أموال أو بشكل فتح أسواق وخضوع سياسي. ماعادت الصًّداقات الطويلة الأمد ولا التحالفات القديمة قادرة على أن توقف موجة التسليع الجديدة.

وعليه، إذا كانت دولة ما تريد من دولة كأمريكا حماية عسكرية، أو دعماً سياسياً في المحافل الدولية، أو غضًّ الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان، فعليها أن تدفع ثمن الحماية أو الدعم أو غضُّ الطرف إن كانت دولة غنيًّة، أو أن تفتح أسواقها للبضائع أو الشركات الأمريكية إن كانت دولة فقيرة.

إنه تسليع لكل ممارسة سياسية فيما بين الدول القوية البائعة من جهة والدول الضعيفة الشًّارية من جهة أخرى.

فاذا أضفنا إلى ذلك إنسحاب أمريكا من اتفاقيات والتزامات حماية البيئة من آثار التلوًّث الناتج عن النشاطات الصناعية، أي التجاهل العبثي لكل الإنذارات الصادرة عن مراكز البحوث والعلماء بشأن توجًّه بيئة الكرة الأرضية نحو الكارثة إذا استمُّر مستوى ذلك التلًّوث في تزايد مستمر.. فاننا ندرك كم أن أفكار وقيم الرأسمالية النيولبرالية لم تعد مقتصرة على الإقتصاد، وإنمًّا أصبحت فلسفة شمولية تطال الإنسان والحياة الطبيعية والمعنوية كلها بعد أن أصبحت العلاقات السياسية سلعة من السًّلع. إنه تطور مرعب نحو ادارة العالم بمنطق تنافس السوق واحتكاراته وأنانيًّته وجشعه الذي لا يشبع.

أما الفصل الثاني فتكتبه الأحداث الجارية في شوارع مدن فرنسا في هذه اللحظة، والتي شاهدنا مثلها من قبل كمظاهرات غاضبة صاخبة في مدن العراق منذ فترة قصيرة وفي المدن التونسية في هذه الأيام. كما تكتبه في العديد من بلدان الغرب الرأسمالي القوى اليمينية الشعبوية الغاضبة المنادية بعدم الأخذ بالعديد من ممارسات العولمة والتراجع مجدًّداً نحو الدولة الوطنية الحمائية المعنية بمصالحها الذاتية كأولوية قصوى.

إنها جميعاً إرهاصات لردود الأفعال التي نبًّه إلى إمكانيات مجيئها بعض عتاة المنادين بالنيولبرالية منذ سنين عديدة كما فصًّلنا سابقاً.

في الفصل الأول هناك استمرارية لمحاولات تطوير ودفع الرأسمالية العولمية النيولبرالية لتصبح النظام الأوحد في هذا العالم ولتكتسح كل النظم الإقتصادية الأخرى، وليهيمن فكرها وتهيمن قيمها على النشاطات السياسية والاجتماعية والثقافية، بحيث تصبح إملاءات الإقتصاد الرأسمالي النيولبرالي هي المرجعية العليا للحضارة الحديثة.

وكالعادة فان النظام الرأسمالي، في أي شكل كان، لن يتعلًّم من عثراته وأزماته التاريخية السابقة، وسيجد لديه ساسة، من أمثال دونالد ترامب، وأكاديميين، من أمثال أساتذة مدرسة شيكاغو الشهيرة التي نشرت الفكر النيولبرالي على نطاق واسع ودرًّبت أعداداًّ كبيرة من الطلبة لتطبيقه في بلدانهم. ولذلك فالأمل في تراجع أمثال هؤلاء الساسة والأكاديميين ضعيف. نرجسيه هؤلاء لن تسمح لهم بالإنفتاح على فكر الآخرين والاعتراف بالثقافات الأخرى.

الأمل إذن هو في بعض من يكتبون الفصل الثاني: إنهم العًّمال والمزارعون والطلاب والمنتمون للطبقة الوسطى واصحاب الضمير الملتزمون بالقيم الإنسانية الذين بدأوا، كعادتهم عبر التاريخ، بمقاومة هذا النظام الاقتصادي الجائر.

إنهم هؤلاء الذين، إضافة لانسحاقهم المادي، بدأ وعيهم ينضج ليرى مساوئ ذلك النظام الكبرى.

إنهم يعون الغياب شبه التام للعدالة، وعلى الأخص العدالة الاجتماعية، ممًّا يخلق تفاوتاً طبقياً عالمياً كارثياً يتميًّز بازدياد الفقراء فقراً والأغنياء غنى. إنهم يعون محاولات إضعاف دولة الرعاية الإجتماعية ويشاهدون جنون الخصخصة.

إنهم يعرفون أنهم وحدهم يحملون عبئ دفع مديونيات بلادهم المدمُّرة لاقتصادهم الوطني. إنهم يقفون حائرين أمام تشييئ وسلعنة كل شيئ على حساب إنسانيتهم ومن أجل مصالح المترفين الخاصة.

الوعي بكل ذلك هو الذي يكتب الفصل الثاني، وسيوصل نهاية التمثيلية .إمًّا إلى إصلاح جذري إنساني أو إلى موجة جديدة من الدًّمار البشري. إنه التاريخ وهو يعيد كتابة قصصه.

 

اقرأ المزيد