الجمعة, أبريل 19, 2024

اخر الاخبار

مقالاتد. على فخروالإنفصام فى الحياة السياسية العربية

الإنفصام فى الحياة السياسية العربية

بقلم: د.علي محمد فخرو

كنا، منذ فترة، نصف المشهد السياسي العربي، خصوصاً بعد حراكات وثورات الربيع العربي المغدور، بأنه مشهد سريالي. في ذلك المشهد تختلط الصُّور وتمتزج الظًّلال لتكوًن لوحات سياسية غير واضحة أومرتبًة، وبالتالي غير مفهومة.

وكما تدلًّ الحياة السريالية التي يعيشها بعض الأفراد على تشًّوش في الفكر واهتزاز في توازن الشخصية، فان الأمر نفسه ينطبق على المجتمعات والدول التي تسمح الظروف بأن تقلب الأحداث حياتها إلى صور سريالية متنافرة.

لكن يظهر أن ذلك المرض السًّلوكي والفكري قد تحوًّل تدريجياً، لدى يعض أنظمة الحكم العربية، إلى مرض نفسي وعقلي خطير مدمًّر للذات، يتمثًّل في إنفصام شخصية تلك الأنظمة وتحويلها إلى شخصيتين متناقضتين قادرتين، بتبريرات نفعية، على التعايش بانسجام وتعاضد.

فلقد كانت شخصية الغالبية من أنظمة الحكم العربية، منذ بضعة عقود، تتعايش فيها المشاعر والإلتزامات والمصالح الوطنية المحلية مع المشاعر والالتزامات والمصالح القومية المشتركة الكبرى.

وحتى الأقلية الصغيرة من أنظمة الحكم العربية، التي لم يتوفر في شخصيتها ومسلكيتها ذلك التوازن، منعها الخوف أحياناً أو الحدًّ الأدني من الخجل أحياناً أخر، من مضاددة مشاعر شعوبها الوطنية والقومية العفوية المتلازمة بصورة طبيعية أخوية كما منعها من الشًّطط في حماقاتها الأنانية أو ممارسة الدونية المذلًّة أمام قوى الخارج الاستعمارية المعادية لهذا الجزء من الأمة العربية أو ذاك.

مناسبة الدخول في تلك الملاحظات الموجعة للقلب، ردود الأفعال العربية تجاه القرارات النرجسية العدائية الفضائحية، المغموسة في هوس ديني مفتعل صهيوني، للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بتحريض من صهره الصهيوني كوشنر، تجاه القدس العربية منذ بضعة شهور، وتجاه الجولان العربي منذ بضعة أيام.

كان المنتظر، كحدُّ أدنى، أن يصدر قرار عربي موحًّد، باسم الجامعة العربية من جهة، ومن خلال كل وزارة خارجية عربية من جهة أخرى، يعتبر القرارات الرئاسية الأمريكية الأخيرة قرارات حرب عدوانية على كل الأمة (وليس فقط خاطئة أو مخالفة للشرعية الدولية كما تلاعب بكلماتها البعض) وأنه ستكون لها إنعكاسات على كل المصالح والعلاقات الأمريكية في كل الأرض العربية.

لنذكُّر هنا بأن عرًّابي المافيا من السًّراق الذين يوزعون ما لا يملكون لا يخافون إلاً من المواقف الرًّجولية الندًّية الشجاعة لمن يواجهونهم بشرف.

كان المنتظر، كأول ردًّ فعل، دعوة سوريا للعودة إلى الجامعة العربية كتأكيد قومي بأن سوريا هي جزء من وطن عربي واحد، وأنها لن تترك لوحدها لتجابه صلف نظام الحكم الأمريكي.

كان التعلُّل بضرورة الإجماع لإرسال الدعوة تعللاً غير مقبول، وغير منطقي تحت ظروف هذه الهجمة العدوانية الجديدة على الوطن العربي.

دعنا نذكًّر هنا بأن سوريا لا تتمثًّل فقط في نظام حكم، لدى بعض أنظمة الحكم العربية مشاكل معه مثلما لديه هو الآخر مشاكل معها. سوريا هي قطعة وجودية من الوطن العربي، فهى شعب عربي أثبت عبر التاريخ ، وفي العصر الحديث على الأخص، أنه من أكثر شعوب الأمة العربية وفاءًّ لالتزاماته القومية ومن أكثر شعوبها كرماً واحتضاناً وتضحية من أجل أيً من المنكوبين والمشرًّدين واللاجئين والمضطهدين العرب.

لقد وقفت سوريا ، شعباً وحكومة، في كل حرب ومعركة خاضتها أقطار من الأمة العربية ضدًّ أعداء العرب الكثيرين. لقد خسرت الجولان، كأرض محتلة من قبل العدو الصهيوني، من جرًّاء وقوفها المشرًّف مع شقيقتها مصر إبًّان معركتها العادلة ضدُّ الكيان الصهيوني، عندما وقف الكثيرون يتفرًّجون.

فهل هكذا يجازى الشعب العربي السوري الشقيق، المبهر في عطائه وتاريخه وتضحياته الهائلة، وهو يخوض حربه الوجودية مع عتاة الإجرام الجهادي الإسلامي المزعوم في الداخل وضد التكالب الخارجي، الذي تقوده أميركا والصهيونية، من أجل تفتيت أرضه وتدمير كل مكوناته الحضارية والمعيشية؟.

من الواضح جداً أن قوى الشًّر الداخلية والخارجية ترمي لجعل الشعب العربي في سوريا يكفر بالعروبة وبارتباطاته القومية وبأخوة الإسلام، تماماً كما حاولت وتحاول تلك القوى فعل الأمر نفسه حالياً بالنسبة للشعوب العربية في فلسطين والعراق وليبيا واليمن ومصر، وسيأتي الدًّورعلى الآخرين الحالمين المعتقدين ببلادة متناهية بأنهم سيكونون في مأمن من مؤامرات الداخل والخارج المماثلة.

ويظهر أن قبول فقدان الجزء تلو الآخر من الوطن العربي للغير أصبح سلوكاً ملازماً للشخصية السياسية الحاكمة في بعض أرض العرب.

أما بالنسبة لأميركا فقد كنا نأمل إجراء مراجعة شاملة جادة لكل علاقات العرب السياسية والاقتصادية والأمنية والشخصية مع نظام حكم حالي لم يبق ابتزازاً إلاً ومارسه، ولم يبق احتقاراً للعرب إلاً وأعلنه، ولم يبق شرعية دولية إلاً وداس عليها، ولم يبق اتفاقات ومعاهدات عربية معه إلاً وألقى بها في سلًّة المهملات.

ومع ذلك فلا زال مندوبوه ولا زالت وفوده محلًّ ترحيب من قبل الكثير من قادة العرب وأنظمة حكمهم.

نعم هناك انفصام في الشخصية يتعايش فيها جبروت وتسلًّط وتهديدات وعنتريات في الدًّاخل مع سلوك ضعيف ذليل مستسلم في الخارج.

لك الله يا شعب سوريا الرًّائع المبهر إلى أن تتعافي تلك الشخصية العربية من انفصامها المأساوي.

اقرأ المزيد