الخميس, أبريل 25, 2024

اخر الاخبار

مقالاتد. على فخرو«رمضان» فى قبضة سلوكيات الثقافة

«رمضان» فى قبضة سلوكيات الثقافة

بقلم: د.علي محمد فخرو

مهما كان موضوع الحديث في بلاد العرب فاننا سننتهي إلى معضلة الثقافة العربية الجمعية. ففي تلك الثقافة، وعلى الأخص الشعبي منها، بعض المكونات الفكرية والسلوكية المتخلًّفة وبعض العادات المشؤًّهة للحياة الفردية والجمعية.

ولذلك فليس بمستغرب أن تنقلب عبادة روحية، شرًّعها الله لتهذيب النفس وللسمو الروحي، إلى خليط عجيب من التصرُّفات الفردية والأنشطة المجتمعية، المناقضة للمقاصد الكبرى التي أرادها الخالق من تشريع تلك العبادة، بحيث تضيع الحكمة من فرض تلك العبادة وتنقلب إلى ممارسات شكلية.

وهكذا ما إن يحلً شهر رمضان في كل عام حتى نقرأ ونسمع أشكالاً من النقد بشأن تشيُّؤ شهر الصوم وتحذيرات ونصائح بشأن ممارسات خاطئة أثناء شهر رمضان. لكن مع ذلك تبقى سطوة وهيمنة الثقافة العربية الجمعية ممسكة بخناق هذه العبادة عبر السنين والقرون. سنعرض بعضاً من أمثلة الواقع الرمضاني وذلك من أجل توضيح مانعني.

أولا، هناك عادة التبذير المتجذًّرة في الثقافة العربية التي تقلب وجبة الإفطار الرمضانية إلى وجبة تخمة وإفراط مستمر في الأكل والشراب طيلة الليل، بحيث تنتفي الحكمة من وراء الصيام الهادفة إلى التذكير بمحنة جوع الفقراء طيلة العام وإلى الإقناع بأهمية التوزيع العادل لثروة المجتمعات حتى لا تتعايش ظاهرتي غنى التخمة وفقر الفاقة في نفس المجتمع، بل وفي نفس الحي.

ولا يقف الأمر عند تبذير الفرد أو العائلة إذ أن الغالبية من الدول العربية والإسلامية يزداد مقدار وثمن استيرادها للمواد الغذائية والمكسًّرات لشهر رمضان إلى اكثر من ضعف ماتستورده لبقية أشهر السنة، الأمر الذي يؤدي إلى عجوزات في الميزانيات العامة وإلى ارتفاع في نسبة الدًّين العام لتلك المجتمعات، مًّما سيؤدي في النهاية إلى ازدياد الفقر، وبالتالي إلى ظاهرة الجوع.

ثانياً، أما مايتبع الإفطار، وإلى ساعات قريبة من الفجر، من برامج تلفزيونية يمتلئ بعضها بحركات وتعبيرات الجسد المثيرة لكل أنواع الشهوانية، وبالرقصات الخليعة، وبالأغاني المائعة المجونية، فانه غيرمستغرب وجودها وتقبلها وإدمانها في ثقافة جمعية تعوًّدت أن تتعايش فيها عبر القرون الثنائيات المتضادات والمتناقضات من الأفكار والسلوكيات والعقائد حتى ولوكانت في حالة صراع دائم فيما بينها.

ولذلك فشروط إكتمال عبادة الصوم عن الأكل والشراب من مثل ضرورة الإبتعاد عن الفسوق والشهوات الجسدية والذهنية وعن الرًّفث في الكلام من فحش وجدال وقبح يمكن أن تتعايش جنباً إلى جنب مع كل مايعرضه التلفزيون من برامج تتعارض قصصها وخطاباتها مع تلك الشروط، ويتقبلها الصائمون بطيب خاطر من خلال فهمهم الغريب من أن الحسنات يذهبن السيئات، كذا باطلاق ودون شروط.

ثالثاً، أما الجدل العقيم فيما بين مؤسسات ورجال الدين والمذاهب بشأن توقيت بداية شهر الصوم والتفسيرات التي لاتستقر على حال حول معنى كلمة “رؤية الهلال” في النصوص وتفسيراتها السًّلفية، وكذلك الجدل بشأن توقيت بداية يوم الصوم عند الفجر … فانه جدل ينًّم عن الحذر والتردُّد الدائم في الثقافة العربية بشأن التعايش مع منجزات العلوم والتكنولوجيا.

وإلاً، فهل هناك حاجة لمثل ذلك الجدل في عصر وصلت فيه دقة العلوم والتكنولوجيا إلى الحديث عن حسابات وفروقات في توقيت الزمن تصل في صغرها إلى واحد من المليون من مدة الدقيقية أوالثانية الواحدة؟ مرة أخرى، نحن أمام ثقافة لم تحسم أمرها بشأن ما هوغيبي رمزي وما هو علمي واقعي، ما كان ممكناً في عصر سابق وما هو ممكن في العصر الذي نعيش.

وبالطبع سندخل في نفس الجدل المملًّ عندما سنتحدث قريباً عن توقيت نهاية صوم شهر رمضان وبداية اليوم الأول من عيد الفطر، بل وعن توقيت بداية كل شهر مرتبط برمزية دينية أو مذهبية عند البعض.

رابعاً، ولأنًّ سهرات رمضان ارتبطت بعادات وسلوكيات كثيرة تجعلها تمتدًّ إلى ساعات متأخرة من الليل، فقد انعكس تأثير السُّهر الطويل على قدرة الصائم في العمل المنتج والنًّشاط في صبيحة اليوم التالي.

فالصائم يأتي لعمله وهو منهك نعسان متثائب، فلا يجيده ولاينهيه. وهذا أيضاً يعتبره الصائم شيئاً طبيعياً ومبرًّراً، ويلقي باللًّوم على جوع وعطش الصوم، بينما يقع اللوم على ثقافة لاتحترم بصرامة إلتزامات وواجبات العمل ومستوجبات الإنتظام المطلوب لإتمام النشاطات الإنسانية على أكمل صورة ممكنة.

في كتاب “المجتمع العربي المعاصر” للدكتور حليم بركات يصل المؤلف إلى نتيجة مفادها أن ماتتميز به الثقافة العربية هو التنوُّع والصًّراع بين إتجاهات قيمية متناقضة، وليس التمسك بأيًّ إتجاه لذاته. وهذا يجعلها في حالة تناقض وصراع وصيرورة. ويخلص إلى أن الثقافة السائدة، وهي في أغلبها ثقافة الجماهير الشعبية البسيطة، تميل إلى قيم الجبرية والماضوية والإتباع والشكلية والإمتثال القسرى والإنغلاق واحترام السلطة.

وكجزء من حلًّ ذلك الإشكال ينادي بالتحرًّر من التقاليد والعمل بدلاً من ذلك على تنمية قدرات الخلق والإبتكار.

للتخلص من الثنائيات الرمضانية المتناقضة، ولإعادة هذه العبادة إلى ألقها الروحي والتزاماتها الإنسانية سنحتاج إلى مراجعة عميقة متجاوزة لبعض ماعلق بالثقافة العربية الجمعية عبر القرون من أفكار وعقائد وسلوكيات وعادات تساهم دوماً في تشوية أو إعاقة أو منع تجديد كل الأنشطة الحياتية في بلاد العرب، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية ام اجتماعية أم دينية.

عود على بدئ: إنها ثقافة تحتاج إلى أن تثور على نفسها لكي تتجدًّد.

اقرأ المزيد