بقلم: د.علي محمد فخرو
لننطلق مًّما حفره الفعل سابقاً في الواقع، ومًّما يحفره حاضراً، قبل أن ننتقل إلى مقتضيات المستقبل. ذلك أن أحداث الواقع العربي تزخر بالدروس والعبر.
نحن هنا معنيون في الدرجة الأولى بمحاولات التغيير السياسي الجذري من قبل جماهير شعبية كثيفة بمساعدة قيادية فاعلة من قبل كتلة كبيرة متفاهمة من مؤسسات المجتمع المدني السياسية والنقابية والمهنية. ولنقتصر زمناً على السنوات الثمانية الماضية ومكاناً على نماذج من أقطار الوطن العربي. هنا لدينا أنموذجين متقابلين في الفاعلية والنتائج.
الأنموذج الأول كان في شكل مظاهرات جماهيرية مليونية ضمًّت أفراداً عاديين ومثقًّفين وأشكال كثيرة من مؤسسات المجتمع المدني المعارضة للحكم المستبد الفاسد. لكنها افتقدت إلى وجود قيادة واحدة تمثًّل جميع مكوًّنات ذلك الحراك الجماهيري وتنطق وتتصرف باسمه وترسم له نشاطاته اليومية، وفي القوت نفسه تتمتًّع بثقة غالبية أفراده وأفراد المجتمع بصورة عامة.
غياب ذلك التنظيم القيادي، القائم على أسس ثورية توافقية من جهة وعلى تنظيم وتوافق ديموقراطي من جهة ثانية، سمح باختراق تلك الحراكات الجماهيرية، والإلتفاف حول مطالبها، وتأجيج الخلافات فيما بين مكوًّناتها، ودسًّ الإنتهازيين والاستخباراتيين في صفوفها، ومن ثمًّ إدخالها في دوًّامة العنف. فكانت النتيجة تغيير بعض أوجه ومؤسسات النظام المستبد الفاسد السابق الذي كان يراد تغييره، ولكن دون سقوطه كلياً، ومن الأعماق والجذور والشمول.
وهكذا ضاعت فرص تاريخية لإحداث تغييرات هائلة، وبُّدًّدت تضحيات جماهيرية كبيرة، لتنتهي إلى إنتكاسات مفجعة لازالت معنا إلى يومنا هذا. ذاك كان أنموذجاً من الماضي.
أما الأنموذج الثاني فانه ماثل أمامنا في حراكين جماهيريين هائلين في قطرين عربيين هما الجزائر والسودان. في هذه المرة استوعبت مكونات الحراكين دروس التجارب التي سبقتها ونجحت في إيجاد صيغة قيادية توافقية، يبدوا أنها ديموقراطية في تركيبتها واتخاذ قراراتها، استطاعت أن تدمج بصورة ناجحة أفراداً وقوى تمثًّل الأحزاب والنقابات والجمعيات والأفراد الملتزمين النًّشطين، وبالتالي جعل الكتلة الجماهيرية المليونية كتلة متفاهمة ومتناغمة يصعب اختراقها أو الإلتفاف حول مطالبها أو إنهاكها وإدخالها مراحل الملل واليأس أو دخول الانتهازيين ضمن صفوف قياداتها.
شعور الجماهير بالثقة في تلك القيادة، وبأنها تمثًّلهم، وبأنها لن تتخاذل عن التضحية معهم إن لزم الأمر، هو الذي يفسًّر القدرة الهائلة على إبقاء جذوة التجييش مشتعلة يوماً بعد يوم وأسبوعاً بعد أسبوع، دون تراجع ولا كلل ولا يأس. وفي كلتا الحالتين لم تنخدع الجماهير بالأقوال دون الأفعال ولم تقبل الحلول الوسط المؤدُّية في النهاية إلى إبقاء الأوضاع السابقة كما كانت عليه في الجوهر، ولكن وراء أقنعة مزيًّفة ومكياجات خادعة.
في هذه المرة عرفت الجماهير أن التغييرات المجتمعية الكبرى تحتاج إلى نفس طويل وصبر وإصرار وضغط تراكمي على من يرفضون حدوث تلك التغييرات.
الأنموذجان يمثًّلان درساً للمستقبل، وهذا الجانب هو لبًّ موضوعنا. لقد كانت تجربة الأنموذجين على المستوى الوطني القطري، فماذا عن المستوى القومي العربي لأمة العرب ولوطن العرب؟.
لا حاجة للدخول في التفاصيل المملًّة بشأن الأخطار والكوارث الهائلة التي تحيط حالياً بالأمة كلها، ولا بشأن الدًّمار البشري والعمراني الذي يعيشه الوطن العربي كلًّة حتى ولو بنسب متفاوته. إن الوطن العربي يواجه الآن مؤامرة كبرى من قبل بعض الدول، وفي مقدمتها نظام الحكم الأميركي الحالي، ومن قبل هجمة صهيونية يمينية متطرفة مترامية، معقدة ومستميته.
يقابل تلك الأخطار صراعات وتمزقات في الجسد العربي، لم يسبق لها مثيلاً في تاريخ العرب كلُه، الأمر الذي أنهك وأضعف المجتمعات العربية وأوصل العمل القومي المشترك إلى الحضيض في مقدار فاعليته للوقوف في وجه تلك الأخطار. ولأن مقدار الدمار والأخطار أصبح هائلاً ومتشابكاً أصبحت أية جهود وأية نجاحات على المستوى الوطني القطري غير كافية لإنقاذ مايمكن إنقاذه على المستوى القومي.
من هنا طرح السؤال الآتي : هل يمكن الإستفادة من نجاحات الأنموذج الثاني لخلق أنموذج ثالث مماثل، ولكن على المستوى القومي في هذه المرة؟ هل تستطيع بعض الأحزاب وبعض النقابات وبعض الجمعيات المهنية وبعض الأفراد الملتزمين، مّمن وصفهم في السابق بعمق وثورية المناضل الإيطالي غرامشى.
هل يستطيع هؤلاء أن يستجيبوا للتحديات التاريخية الحالية الهائلة التي نواجهها الأمة، فيخلقوا نواة قيادة توافقية، متعاضدة متناغمة، محكومة بالأسس والمنهجية الديموقراطية في تركيبتها وعملها وقراراتها، قادرة على كسب ثقة الملايين من شباب وشابات الأمة العرية، مناضلة بسلمية لإحداث نجاحات تراكمية في الواقع العربي من جهة ولإيقاف تمدُّد الإستباحة الاستعمارية والصهيونية من جهة ثانية، قادرة نمع الوقت وباستمرار على اجتذاب قوى جديدة وأفراد جدد للإنضمام إلى تلك النًّواة لتصبح في النهاية كتلة تاريخية نضالية تحارب بألف طريق وطريقة من أجل إخراج هذه الأمة من الجحيم الذي تعيشه إلى نهضة عربية حديثة تستحقها؟.
لا يحتاج الوضع العربي المأساوي الحالي إلى مزيد من التشخيص والأهداف الحضارية المستقبلية، بل يحتاج إلى تبنًّي الأمة كلها لنماذج ناجحة فاعلة في بعض من أجزاء وطنها.